فصل: سنة أربع وعشرين وخمس مئة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العبر في خبر من غبر (نسخة منقحة)



.سنة إحدى وعشرين وخمس مئة:

فيها أقبل السلطان محمود بن محمد ملكشاه في جيشه محارباً للمسترشد بالله وتحول أهل بغداد كلّهم إلى الجانب الغربيّ، ونزل محمود والعسكر بالجانب الشرقي، وتراموا بالنشّاب، وتردّدت الرسل في الصلح، فلم يقبل الخليفة فهدمت دور الخلافة. فغضب الخليفة وخرج من المخيّم، والوزير ابن صدقة بين يديه، فقدّموا السفن في دفعة واحدة، وعبر عسكر الخليفة، وألبسوا الملاَّحين السّلاح، وسبح العيّارون، وصاح المسترشد: يال بني هاشم: فتحركت النفوس معه. هذا وعسكر السلطان مشغولون بالنهب، فلما رأوا الجدّ ذلّوا وولّوا الأدبار، ومل فيهم السيف اسر منهم خلقٌ، وقتل جماعةٌ أمراء. ودخل الخليفة إلى داره. وكان معه يومئذ قريب من الثلاثين ألف مقاتل بالعوام. ثم وقع الصلح.
وفيها ورد الخبر بأن سنجر صاحب خراسان قتل من الباطنية اثني عشر ألفاً.
ومرض السلطان محمود وتعلّل بعد الصلح. فرحل إلى همذان وولي بغداد الأمير عماد الدين زنكي بن آقسنقر. ثم صرف بعد أشهر، وفوّض إليه الموصل. فسار إليها لموت متولِّيها مسعود بن آقسنقر البرسقي.
وفيها توفي أبو السعادات أحمد بن أحمد بن عبد الواحد الهاشميّ العباسي المتوكلي. شريفٌ صالحٌ خيرٌ. روى عن الخطيب وابن المسلمة، وعاش ثمانين سنة. ختم التراويح ليلة وعشرين ورجع إلى منزله فسقط من السطح فمات.
وأبو الحسن الدِّينوري عليُّ بن عبد الواحد. روى عن القرويني وأبي محمد الخلال وجماعة. وهو أقدم شيخ لابن الجوزي، توفي في جمادى الآخرة.
وأبو الحسن بن الفاعوس عليُّ بن المبارك البغدادي!ُ الحنبليّ الزاهد الإسكاف. كان يقصُّ يوم الجمعة، وللناس فيه عقيدةٌ لصلاحه وتقشُّفه وإخلاصه. روى عن القاضي أبي يعلى وغيره.
وأبو العزّ القلانسي محمد بن الحسين بن بندار الواسطي، مقرئ العراق وصاحب التصانيف في القراءات. أخذ عن أبيّ علي غلام الهرّاس، وسمع من أبي جعفر بن المسلمة. وفيه ضعف وكلام. توفي في شوّال عن خمس وثمانين سنة.

.سنة اثنتين وعشرين وخمس مئة:

في أوّلها تملّلك حلب عماد الدين زنكي.
وفيها سار السلطان محمود إلى خدمة عمه سنجر فأطلق له دبيس بن صدقة وقال: إعزل زنكي عن الموصل والشام وولِّ دبيساً، واسأل الخليفة أن يصفح عنه. فأخذه ورجع.
وفيها توفي طغتكين ابن أتابك، وأبو منصور ظهير الدين. وكان من أمراء تتش السلجوقي بدمشق. فزوّجه بأم ولده دقاق. ثم إنه صار أتابك دقاق، ثم تملّك دمشق. وكان شهماً مهيباً مدبّراً سائساً، له مواقف مشهورة مع الفرنج. توفي في صفر، ودفن بتربته قبلي المصلّى. وملك بعده ابنه تاج الملوك بوري، فعدل ثم ظلم.
وأبو محمد الشنترينيُّ ثم الإشبيليُّ الحافظ عبد الله بن أحمد. روى الصحيح عن ابن منظور عن أبي ذرّ، وسمع من حاتم بن محمد وجماعة.
قال ابن بشكوال: كان حافظاً للحديث وعلله، عارفاً برجاله، وبالجرح والتعديل، ثقةً، كتب الكثير، واختصّ بأبي عليّ الغسّاني، وله تصانيف في الرجال، توفي في صفر.
قلت: عاش ثمانياً وسبعين سنة.
وابن صدقة الوزير أبو عليّ الحسن بن عليّ بن صدقة، جلال الدين وزير المسترشد. كان ذا حزمٍ وعقل ودهاءٍ ورأيٍ وأدبٍ وفضلٍ، توفي في رجب.

.سنة ثلاث وعشرين وخمس مئة:

فيها ولي الوزارة عليّ بن طرّاد للمسترشد بالله وصمّمم الخليفة على أن لا يوليّ دبيساً شيئاً، وأصلح زنكي نفسه بأن يحمل للسلطان في السنة مئة ألف دينار وخيلاً وثياباً فأقرّه.
وفيها في رمضان هجم دبيس بنواحي بغداد ودخل الحلّة، وبعث إلى المسترشد يقول: إن رضيت عنّي رددت أضعاف ما ذهب من الأموال. فقصه عسكر محمود، دخل البريّة بعد أن أخذ من العراق نحو خمس مئة ألف دينار.
وفيها أخذ زنكي حماة من بوري بن طغتكين وأسر صاحبها سونج بن بوري. ثم نازل حمص فلم يقدر عليها. فأخذ مع سونج وردّ إلى الموصل. فاشتري بوري بن طغتكين ولده سونج منه بخمسين ألف دينار، ثم لم يتمّ ذلك. فمقت الناس زنكي على غدره وعسفه.
وفيها قتل بدمشق نحو سنة آلاف ممن كان يرمى بعقيدة الإسماعيلية.
وكان قد دخل الشام بهرام الأسدآباذي وأضلّ خلقاً، ثم إن طغتكين ولاّه بانياس فكانت سبّة من سبّات طغتكين. وأقام بهرام له داعياً بدمشق فكثر أتباعه بدمشق، وملك هو عدّة حصون بالشام. منها القدموس. وكان بوادي التّيم طوائف من الدرزيّة والنصيريّة والمجوس قد استغواهم الضحّاك فحاربهم بهرام فهزموه، وكان المزدغانيّ وزير دمشق يعينهم، ثم راسل الفرنج ليسلِّم إليهم دمشق فيما قيل ويعوّضوه بصور، وقرر مع الباطنيّة بدمشق أن يغلقوا أبواب الجامع والناس في الصلاة. ووعد الفرنج أن يهجموا على البلد ساعتئذ. فقتله بوري وعلّق رأسه، وبذل السيف في الباطنية الإسماعيليّة بدمشق في نصف رمضان يوم الجمعة. فسلّم بهرام بانياس للفرنج، وجاءت الفرنج فنازلت دمشق. وسار عبد الوهاب بن الحنبلي في طائفةٍ يستصرخ أهل بغداد على الفرنج، فوعدوا بالإنجاد، ثم تناخى عسكر دمشق والعرب والتركمان فبيّتوا الفرنج فقتلوا وأسروا ولله الحمد.
وفيها توفي جعفر، بن عبد الواحد أبو الفضل الثقفي الإصبهانيّ الرئيس. روى عن ابن مندة وطائفة، وعاش تسعاً وثمانين سنة.
والمزدغانيُّ الوزير كمال الدين طاهر بن سعد، وزير تاج الملوك بوري بن طغتكين. مرّ أنه قتل وعلقِّ رأسه على القلعة.
وأبو الحسن عبيد الله بن محمد بن الإمام أبي بكر البيهقي. سمع الكتب من جدِّه، ومن أبي يعلى الصابوني وجماعة. وحدّث ببغداد. وكان قليل الفصيلة.
توفي في جمادى الأولى وله أربعٌ وسبعون سنة.
ويوسف بن عبد العزيز أبو الحجّاج الميّورقي الفقيه العلامة نزيل الاسكندرية، وأحد الأئمة الكبار. تفقّه ببغداد على ألكيا الهرّاسي، وأحكم ألأصول والفروع. وروى البخاري عن واحد عن أبي ذرّ، ومسلماً عن أبي عبد الله الطبري. وله تعليقةٌ في الخلاف. توفي في آخر السنة.
قال السِّلفي: حدّث بالترمذي وخلط في إسناده.

.سنة أربع وعشرين وخمس مئة:

فيها التقى زنكي الفرنج بنواحي حلب وثبت الجمعان ثباتاً كلّياً، ثم ولّت الفرنج، ووضع السيف فيهم، وأسر خلقاً. وافتتح زنكي حصن الأثارب عنوةً، وكان له في أيديهم سنوات فخرّبه، ونازل حصن حارم فمنها ذلّت الفرنج مع ما جرى منذ أشهر من كسرتهم على دمشق.
وفيها وزر بدمشق الرئيس مفرّج بن الصوفي.
وفيها أخذ السلطان محمود قلة الألموت.
وفيها ظهرت ببغداد عقارب طيّارة قتلت جماعة من أطفال.
وفيها توفي أبو إسحاق الغزّيُّ إبراهيم بن عثمان شاعر العصر وحامل لواء القريض. وشعره كثير سائرٌ متنقّلٌ في بلد الجبال وخراسان. وتوفي بناحية بلخ، وله ثلاث وثمانون سنة.
والإخشيذ إسماعيل بن الفضل الإصبهاني السرّاج التاجر. قرأ القرآن على جماعة، وروى الكثير عن ابن عبد الرحيم وأبي القاسم بن أبي بكر الذكواني وطائفة. وعمّر ثمانياً وثمانين سنة.
والبارع وهو أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الوهاب البغدادي الدبّاس المقرئ الأديب الشاعر. وهو من ذريّة القاسم بن عبد الله وزير المعتضد. توفي في جمادى الآخرة عن اثنتين وثمانين سنة. قرأ القرآن على أبي بكر محمد بن عليّ الخيّاط وغيره، وروى عن أبي جعفر بن المسلمة، وله مصنفات وشعر فائق.
وابن الغزال أبو محمّد عبد الله بن محمد بن إسماعيل المصري المجاور.
شيخٌ صالح مقرئ. قد سمع السلفي في سنة ثلاث وتسعين وأربع مئة من إسماعيل الحافظ عنه، وسمع القضاعيّ وكريمة. وعمَّر دهراً.
وفاطمة الجوزدانيّة أمُّ إبراهيم بنت عبد الله بن أحمد بن القاسم بن عقيل الإصبهانية. سمعت من ابن ريذة معجمي الطبراني سنة خمس وثلاثين، وعاشت تسعاً وتسعين سنة. توفيت في شعبان.
وأبو الأغرّ قراتكين بن ألأسعد الزجيّ. روى عن الجوهريّ. وكان عامياً. توفي في رجب ببغداد.
وأبو عامر العبدري محمد بن سعدون بن مرجّا الميورقي، الحافظ الفقيه الظاهرُّ نزيل بغداد. أدرك أبا عبد الله البانياسي والحميديّ، وهذه الطبقة.
قال ابن عساكر: كان فقيهاً على مذهب داود. وكان أحفظ شيخٍ لقيته.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: هو أنبل من لقيته.
وقال ابن ناصر: كان فهماً عالياً متعفّفاً مع فقرة.
وقال السِّلفي: كان من أعيان علماء الإسلام، متصرّفاً في فنون من العلوم.
وقال ابن عساكر: بلغني أنَّه قال: أهل البدع يحتجّون بقوله ليس كمثله شيء أي في الإلهيّة. فأمّا في الصورة فمثلنا. ثم يحتج بقوله لستنّ كأحد من النساء إن اتقيتنّ أي في الحرمة.
ومحمد بن عبد الله بن تومرت المصمودي البربري المدّعي أنه علويّ حسنيّ وأنّه المهديُّ. رحل إلى المشرق ولقي الغزّالي وطائفة وحصل فناً من العلم والأصول والكلام، وكان رجلاً ورعاً ساكناً ناسكاً في الجملة، زاهداً متقشّفاً شجاعاً جلداً عاقلاً عميق الفكر بعيد الغور، فصيحاً مهيباً.
لذته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد. ولكن جرَّه إقدامه وجرأته إلى حبّ الرئاسة والظهور، وارتكاب المحظور، ودعوى الكذب والزور من أنّه حسنيّ، وهو هرغيّ بربريّ، وأنّه إمامٌ معصومٌ، وهو بالإجماع مخصوم. فبدأ أوَّلاً بالإنكار بمكة، فآذوه، فقدم مصر وأنكر، فطردوه. فأقام بالثغر مدّه فنفوه، وركب البحر فشرع ينكر على أهل المركب ويأمر وينهى ويلزمهم بالصلاة. وكان مهيباً وقوراً بزيق الفقر. فنزل بالمهديّة في غرفة، فكان لا يرى منكراً أو لهواً إلاّ غيّرة بيده ولسانه. فاشتهر، وصار له زبون وشباب يقرأون عليه في الأصول. فطلبه أمير البلد يحيى بن باديس وجلس له. فلما رأى حسن سمته وسمع كلامه احترمه وسأله الدعاء. فتحوّل إلى بجاية وأنكر بها.
فأخرجوه، فلقي بقرية ملاّلة عبد المؤمن ابن عليّ شابّاً مختطاً مليحاً. فربطه عليه وأفضى إليه بسرّه وأفاده جملةً من العل: وصار معه نحو خمسة أنفس. فدخل مرّاكش وأنكر كعادته، فأشار مالك بن وهيب الفقيه على عليّ بن يوسف بن تاشفين بالقبض عليهم سدَّا للذريعة، وخوفاً من الغائلة. وكانوا بمسجد داثر بظاهر مرّاكش. فأحضرهم وعقد لهم مجلساً حافلاً، فواجهه ابن تومرت بالحقِّ المحض ولم يجابه، ووبّخه ببيع الخمر جهاراً وبمشي الخنازير التي للفرنج بين أظهر المسلمين، وبنحو ذلك من الذنوب. وخاطبه بكيفيّة ووعظ. فذرفت عينا الملك وأطرق، فقويت التهمة عند ابن وهيب وأشباهه من العقلاء وفهموا مرام ابن تومرت. فقيل للملك: إن لم تسجنهم وتنفق عليهم كل يوم دينار وإلا أنفقت عليهم خزانتك. فهوّن الوزير أمرهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. فصرفه الملك وطلب منه الدعاء واشتهر اسمه وتطالعت النفوس إليه.
وسار إلى أغمات، وانقطع بجبل اتينملّ، وتسارع إليه أهل الجبل يتبرّكون به. فأخذ يستميل الشباب الأعتام والجهلة الشجعان، ويلقي إليهم ما في نفسه، وطالت المدّة، وأصحابه يكثرون وهو يأخذهم بالديانة والتقوى ويحضهم على الجهاد وبذل النفوس في الحق. وورد أنه كان حاذقاً في ضرب الرمل، قد وقع بجفرٍ فيما قيل واتفق لعبد المؤمن أنّه كان قد رأى أنّه يأكل في صحفة مع ابن تاشفين ثم اختطفت الصحفة منه فقال له المعبر هذه الرؤيا لا ينبغي أن تكون لك بل هي لرجل يخرج على ابن تاشفين ثم يغلب على الأمر.
وكانت تهمة ابن تومرت في إظهار العقيدة والدعاء إليها. وكان أهل المغرب على طريقة السلف ينافرون الكلام وأهله.
ولما كثرت أصحابه أخذ يذكر المهدي ويشوِّق إليه، ويروي الأحاديث التي وردت فيه. فتلهّفوا على لقائه. ثم روّى ظمأهم وقال: أنا هو. وساق لهم نسباً ادّعاه، وصرّح بالعصمة. وكان عل طريقةٍ مثلى لا ينكر معها العصمة. فبادروا إلى متابعته، وصنّف لهم تصانيف مختصرات. وقوى أمره في سنة خمس عشرة وخمس مئة. فلما كان في سنة سبع عشرة جهّز عسكراً من المصامدة أكثرهم من أهل تينملّ والسوس وقال: اقصدوا هؤلاء المارقين من المرابطين، فادعوهم إلى إزالة البدع والإقرار بالإمام المعصوم: فإن أجابوكم وإلا فقاتلوهم. وقدّم عليهم عبد المؤمن. فالتقاهم الزبير ولد أمير المسلمين. فانهزمت المصامدة ونجا عبد المؤمن. ثم التقوهم مرّةً أخرى فنصرت المصامدة واستفحل أمرهم، وأخذوا في شنّ الإغارات على بلاد ابن تاشفين، وكثر الداخلون في دعوتهم، وانضمّ إليهم كل مفسدٍ ومريب، واتَّسعت عليهم الدنيا، وابن تومرت في ذلك كله لون واحد من الزهد والتقلّل والعبادة وإقامة السنن والشعائر، لولا ما أفسد القضية بالقول بنفي الصفات كالمعتزلة، وبأنّه المهديُّ، وبتسرّعه في الدماء. وكان ربما كاشف أصحابه ووعدهم بأمور فتوافق، فيفتنون به. وكان كهلاً أسمر عظيم الهامة ربعةً حديد النظر مهيباً طويل الصمت حسن الخشوع والسمت وقبره مشهور معظم ولم يملك شيئاً من المدائن إنما مهّد الأمور وقرّر القواعد فبغته الموت. وكانت الفتوحات والممالك لعبد المؤمن. وقد طولت ترجمة هذين في تاريخي الكبير. والله أعلم.
والآمر بأحكام الله أبو علي منصور بن المستعلي بالله أحمد بن المستنصر بالله معد بن الظاهر بن الحاكم العبيديُّ الرافضيُّ صاحب مصر. كان فاسقاً مستهتراً ظالماً، امتدت دولته. ولما كبر وتمكّن قتل وزيره الأفضل، وأقام في الوزارة البطائحي المأمون، ثم صادره وقتله. ولي الخلافة سنة خمس وتسعين وهو ابن خمس سنين فانظر إلى هذه الخلافة الباطلة من وجوه: أحدها: السن.
الثاني: عدم النسب فإنّ جدّهم دعيٌّ في بني فاطمة بلا خلاف.
الثالث: أنهم خوارج على الإمام.
الرابع خبث المعتقد الدائر بين الرفض والزندقة.
الخامس: تظاهره بالفسق.
وكانت أيامه ثلاثين سنة. خرج في ذي القعدة إلى الجيزة فكمن له قومٌ بالسّلاح، فلما مرّ على الجسر نزلوا عليه بالسيوف. ولم يعقب. وبايعوا بعده ابن عمّه الحافظ عبد المجيد ابن الأمير محمد بن المستنصر، فبقي إلى عام أربعمةٍ وأربعين، وكان الآمر ربعةً شديد الأدمة، جاحظ العينين، عاقلاً ماكراً مليح الخطّ. ولقد ابتهج الناس بقتله لعسفه وظلمه وجوره وسفكه الدماء وإدمانه الفواحش.
وأبو محمد بن الأكفانيّ هبة الله بن أحمد بن محمد الأنصاريُّ الدمشقيُّ الحافظ، وله ثمانون سنة. سمع أباه، وأبا القاسم الحنَّائي، وأبا بكر الخطيب وطبقتهم. ولزم أبا محمد الكتّاني مدةً. وكان ثقةً فهماً شديد العناية بالحديث والتاريخ، كتب الكثير وكان من كبار العدول، توفي في سادس المحرّم.
وأبو سعد المهراني هبة الله بن القاسم بن عطاء النيسابوريّ. روى عن عبد الغافر الفارسي وأبي عثمان الصابوني وطائفة. وعاش ثلاثاً وتسعين سنة.
وكان ثقةً جليلاً خيّراً. وتوفي في جمادى ألأولى.

.سنة خمس وعشرين وخمس مئة:

فيها توفي أبو مسعود بن المجلي أحمد بن علي البغداديّ البزّاز.
شيخٌ مباركٌ عاميّ. روى عن القاضي أبي يعلى وابن المسلمة وطبقتهما.
وأبو المواهب بن ملوك الورّاق، أحمد بن محمد بن عبد الملك البغداديّ، عن خمس وثمانين سنة. وكان صالحاً خيّراً. روى عن القاضي أبي الطيب الطبري والجوهري.
وأبو نصر الطوسيّ أحمد بن محمد بن عبد القاهر الفقيه، نزيل الموصل. تفقّه على الشيخ أبي إسحاق، وسمع من عبد الصمد بن المأمون وطائفة.
والشيخ حمّاد بن مسلم الدبّاس أبو عبد الله الرحبيّ، الزاهد القدوة، نشأ ببغداد، وكان له معملٌ للدّبس. وكان أمِّيّاً لا يكتب. له أصحابٌ وأتباع وأحوال وكرامات. دوّنوا كلامه في مجلدات. وكان شيخ العارفين في زمانه.
وكان ابن عقيل يحطُّ عليه ويؤذيه. وهو شيخ الشيخ عبد القادر. توفي في رمضان.
وأبو العلاء زهر بن عبد الملك بن محمد بن مروان بن زهر الإيادي الإشبيليّ، طبيب الأندلس، وصاحب التصانيف. أخذ عن أبيه. وحدّث عن أبي علي الغسّاني وجماعة. ونال دنيا عريضةً ورئاسةً كبيرة. وله شعرٌ رائق. نكب في الآخر من الدولة.
وعين القضاة الهمذانيّ أبو المعالي عبد الله بن محمد الميانجيُّ، الفقيه العلامة الأديب، وأحد من كان يضرب به المثل في الذكاء. دخل في التصوّف ودقائقه وتعانى إشارات القوم حتى ارتبط عليه الخلق، ثم صلب بهمذان على تلك الألفاظ الكفريّة. نسأل الله العفو.
وأبو عبد الله الرازيّ صاحب السداسيّات والمشيخة، محمد بن أحمد بن إبراهيم الشاهد المعروف ابن الحطّاب، مسند الديار المصريّة، وأحد عدول الاسكندرية. توفي في جمادى الأولى عن إحدى وتسعين سنة. سمّعه أبوه الكثير من مشيخة مصر: ابن حّمصة والطفّال وأبي القاسم الفارسي وطبقتهم.
وأبو غالب الماورديُّ محمد بن الحسن بن علي البصريّ، في رمضان ببغداد، وله خمسٌ وسبعون سنة. روى عن أبي عليّ التستري، وأبي الحسين بن النقور وطبقتهما. وكان ناسخاً فاضلاً صالحاً. دخل إلى أصبهان والكوفة وكتب الكثير وخرّج المشيخة.
والسلطان محمود ابن السطان محمد بن ملكشاه، مغيث الدين السلجوقيّ. ولي بعد أبيه سنة اثنتي عشرة، وخطب له ببغداد وغيرها، ولعمّه سنجر معا. وكان له معرفةٌ بالنحو والشعر والتاريخ. توفي بهمذان، وولي بعده طغريل سنتين، ثم مسعود. وكان قد حلّفهم لابنه داود بن محمود فلم يتمّ له أمر.
وأبو القاسم بن الحصين هبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن العباس بن الحصين الشيبانيُّ البغداديُّ الكاتب الأزرق مسند العراق.
ولد في ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين. وسمع من ابن غيلان وابن المذهب والحسن بن المقتدي، والتنوخيّ. وهو آخر من حدّث عنهم. وكان ديّناً صحيح السماع، توفي في رابع عشر شوال.
ويحيى بن المسرف بن عليّ أبو جعفر المصريُّ التمّار. روى عن أبي العبّاس بن نفيس. وكان صالحاً من أولاد المحدّثين. توفي في رمضان.

.سنة ست وعشرين وخمس مئة:

فيها كانت الوقعة بناحية الدِّينور بين السلطان سنجر وبين ابني أخيه سلجوق ومسعود.
قال ابن الجوزيّ: كان مع سنجر مئةٌ وستون ألفاً، ومع مسعود ثلاثون ألفاً.
وبلغت القتلى أربعين ألفاً.
وقتلوا قتلةً جاهليّةً على الملك لا على الدين. وقتل قراجا أتابك سلجوق.
وجاء مسعود لما رأى القلبة إلى بين يدي سنجر فعفا عنه وأعاده إلى كنجة وقرّر سلطنة بغداد لطغربل ورد إلى خراسان وفيها التقى المسترشد بالله زنكي ودبيساً وكانا في سبعة آلاف قدما ليأخذا سلطنة بغداد. وشهر المسترشد يومئذٍ السيف. وحمل بنفسه، وكان في ألفين. فانهزم وزنكي وقتل من عسكرهما خلق.
وفيها كانت وقعةٌ على همذان بين طغريل السلطان وبين حاشية أخيه محمدو، ومعهم ابن استاذهم داود صبيٌّ أمرد. فانهزموا.
وفيها توفي الملك الأكمل أحمد بن الأفضل أمير الجيوش شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي المصريّ. سجن بعد قتل أبيه مدّةً إلى أن قتل الآمر وأقيم الحافظ. فأخرجوا الأكمل وولي وزارة السيف والقلم. وكان شهماً هيباً عالي الهمّة كأبيه وجدّه. فحجر على الحافظ ومنعه من الظهور، وأخذ أكثر ما في القصر، وأهمل ناموس الخلافة العبيديّة،، لأنه كان سنيّاً كأبيه، لكنّه أظهر التمسّك بالإمام المنتظر، وأبطل من الأذان حيّ على خير العمل وغيرّ قواعد القوم. فأبغضه الدعاة والقوّاد وعملوا عليه. فركب للعب الكرة في المحرّم، فوثبوا عليه وطعنه مملوك الحافظ بحربة، وأخرجوا الحافظ، ونزل إلى دار الأكمل، واستولى على خزائنه، واستوزر يانس مولاه. فهلك بعد عام.
وأبو العزّ بن كادش أحمد بن عبيد الله بن محمد السُّلمي العكبريّ، قي جمادى الأولى، عن تسعين سنة. وهو آخر من روى عن القاضي أبي الحسن الماورديّ. وروى عن الجوهريّ والعشاري، والقاضي أبي الطيب. وكان قد طلب الحديث بنفسه، وله فهم.
قال عبد الوهاب الأنماطي: كان مخلّصاً.
وبوري تاج الملوك صاحب دمشق وابن صاحبها طغتكين مملوك تاج الدولة تتش السلجوقي. وكانت دولته أربع سنين. قفز عليه الباطنية فجرح وتعلل أشهراً، ومات في رجب، وولي بعده ابنه شمس الملوك إسماعيل. وكان شجاعاً مجاهداً جواداً كريماً. سدّ مسدّ أبيه، وعاش ستاً وأربعين سنة.
وعبد الله بن أبي جعفر المرسيّ العلامة أبو محمد المالكيّ. انتهت إليه رئاسة المالكيّة. توفي في رمضان. وقد روى عن أبي حاتم بن محمد، وابن عبد البر، والكبار، وسمع بمكة صحيح مسلم من أبي عبد الله الطبري.
وعبد الكريم بم حمزة، أبو محمد السُّلمي الدمشقيّ الحدّاد، مسند الشام. روى عن أبي القاسم الحنّائي، والخطيب، وأبو الحسين بن مكّي. وكان ثقةً. توفي في ذي القعدة.
والقاضي أبو الحسين بن الفرّاء محمد ابن القاضي أبي يعلى محمد ابن الحسين البغدادي الحنبليّ، وله أربعٌ وسبعون سنة. سمع أباه، وعبد الصمد ابن المأمون وطبقتهما. وكان مفتياً مناظراً عارفاً بالمذهب ودقائقه، صلباً في السُّنة، كثير الحطِّ على الأشاعرة. استشهد ليلة عاشوراء، وأخذ ماله ثم قتل قاتله. ألّف طبقات الحنابلة.